نشأة الأنثروبولوجيا وتاريخها عند العرب (العصور الوسطى)


نشأة الأنثروبولوجيا وتاريخها عند العرب (العصور الوسطى) :
نشأة الأنثروبولوجيا وتاريخها عند العرب (العصور الوسطى)
وتمتدّ من منتصف القرن السابع الميلادي، وحتى نهاية القرن الرابع عشر تقريباّ. حيث بدأ الإسلام في الانتشار، وبدأت معه بوادر الحضارة العربية الإسلامية آنذاك بالتكوين والازدهار. وقد تضمّنت هذه الحضارة : الآداب والأخلاق والفلسفة والمنطق، كما كانت ذات تأثيرات خاصة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقات الدولية .Darnell,1978, p.259)
وقد اقتضت الأوضاع الجديدة التي أحدثتها الفتوحات  العربية الإسلامية، الاهتمام بدراسة أحوال الناس في البلاد المفتوحة وسبل إدارتها، حيث أصبح ذلك  من ضرورات التنظيم والحكم .
ولذلك، برز العرب في وضع المعاجم الجغرافية، كمعجم (البلدان) لياقوت الحموي. وكذلك إعداد الموسوعات الكبيرة التي بلغت ذروتها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر ميلادي)  مثل " مسالك الأمصار " لإبن فضل الله العمري، و " نهاية الأرب في فنون العرب " للنويري .
وإلى جانب  اهتمّام هذه الكتب الموسوعية  بشؤون العمران ، فقد تميّزت مادتها بالاعتماد على المشاهدة والخبرة الشخصيّة، وهذا ما جعلها مادة خصبة من ناحية المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الشعوب والثقافات الإنسانية .
وهناك من تخصّص في وصف إقليم واحد مثل/ البيروني/ الذي عاش ما بين (362 – 440 هجرية) ووضع كتاباً عن الهند بعنوان " تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة " .وصف فيه المجتمع الهندي بما فيه من نظم دينية واجتماعية وأنماط ثقافية. واهتمّ أيضاً بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية، بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس. وأبرز البيروني في هذا الكتاب، حقيقة أنّ الدين يؤدّي الدور الرئيس في تكبيل الحياة الهندية، وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وصياغة القيم والمعتقدات .( فهيم، 1986، ص54)
كما كانت لرحلات ابن بطوطة وكتاباته خصائص ذات طابع أنثروبولوجي، برزت في اهتمامه بالناس  ووصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم. فمّما كتبه في استحسان  أفعال أهل السودان : " فمن أفعالهم قلّة الظلم، فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب. ومنها عدم تعرّضهم لمال من يموت في بلادهم من البيضان (البيض والأجانب) ولو كان القناطير المقنطرة. وإنّما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقّه. (ابن بطوطة، 1968، ص 672)
أمّا كتاب ابن خلدون " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " فقد نال شهرة كبيرة وواسعة بسبب مقدّمته الرئيسة وعنوانها : " في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والمصانع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب ". وتعتبر هذه المقدّمة عملاّ أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيّما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدّمة – فيما بعد – اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية.
ومن أهمّ الموضوعات  التي تناولها ابن خلدون في مقدّمته، والتي لها صلة باهتمامات الأنثروبولوجيا، هي تلك العلاقة بين البيئة الجغرافية والظواهر الاجتماعية. فقد ردّ ابن خلدون – استناداً إلى تلك الدعامة – اختلاف البشر في ألوانهم وأمزجتهم النفسيّة وصفاتهم الجسمية والخلَقية، إلى البيئة الجغرافية التي اعتبرها أيضاً عاملاً هاماً في تحديد المستوى الحضاري للمجتمعات الإنسانية. (ابن خلدون، ج1، 1966، ص 291) كما تناول ابن خلدون في مقدّمته أيضاً، مسألة قيام الدول وتطوّرها وأحوالها، وبلور نظرية (دورة العمران) بين البداوة والحضارة  على أساس المماثلة بين حياة الجماعة البشرية وحياة الكائن الحي.
 وقد سيطرت هذه الفكرة على أذهان علماء الاجتماع في الشرق والغرب – على حدّ سواء – في العصور الوسطى .. حيث اعتبر ابن خلدون أن التطوّر هو سنّة الحياة الاجتماعية، وهو الأساس  الذي تستند إليه دراسة الظواهر الاجتماعية.
يقول في ذلك : " إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، وإنّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. (المرجع السابق، ص 252) فعمر الدول عند ابن خلدون كعمر الكائن البشري، تبدأ بالولادة وتنمو إلى الشباب والنضج والكمال، ثمّ تكبر وتهرم وتتلاشى إلى الزوال .
لقد أرسى ابن خلدون  الأسس المنهجية لدراسة المجتمعات البشرية، ودورة الحضارات التي تمرّ بها، فكان بذلك، أسبق من علماء الاجتماع  في أوروبا. ولذلك، يرى بعض  الكتّاب والمؤرّخين، أن ابن خلدون  يعتبر المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، بينما يرى بعضهم الآخر، ولا سيّما  علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون، في مقدّمة ابن خلدون بعضاً من موضوعات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ومناهجها .وفي أمريكا، أشار /جون هونجيمان / أيضاً في كتابه  " تاريخ الفكر الأنثروبولوجي " إلى أنّ ابن خلدون  تناول بعض الأفكار ذات الصلة بنظرية / مارفين هاريس / عـن " المادية الثقافية –Cultural Materialism " ونجد أنّ / هاريس / ذاته، يذكر أنّ  ابن خلدون ومن قبله الإدريسي، قدّما أفكاراً  ومواد ساعدت في بلورة نظرية الحتمية الجغرافية، التي سادت إباّن القرن الثامن عشر .(Anderson , 1984 , p.112
واستناداّ إلى ما تقدّم يمكن القول : إنّ الفلاسفة والمفكّرين العرب أسهموا بفاعلية – خلال العصور الوسطى- في معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدخل في الاهتمامات الأنثروبولوجية، ولا سيّما التنوّع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص  ثقافة أو حضارة  بذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى. ولكن على الرغم من اعتبارها مصادر للمادة الأثنوجرافية التي درست (أسلوب الحياة في مجتمع معيّن وخلال فترة زمنية محدّدة) ولا سيّما العادات والقيم وأنماط الحياة، فإنّ الأنثروبولوجيا التي تبلورت  في أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به، لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات، ولا بغيرها من الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة .
مصادر الفصل ومراجعه
ابن بطوطة، أبو عبد الله (1968)، رحلة ابن بطوطة، دار التراث، بيروت .
ابن خلدون، عبد الرحمن (1966) مقدّمة ابن خلدون، تحقيق :علي عبد الواحد وافي، القاهرة .
الخشاب، أحمد (1970) دراسات أنثروبولوجية، دار المعارف بمصر .
خشيم، علي فهمي (1967) نصوص ليبيّة، دار مكتبة الفكر، طرابلس، ليبيا .
خفاجة، محمد صقر (1966) هيرودت يتحدّث عن مصر، دار العلم، القاهرة .
فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا- فصول في تاريخ الإنسان، سلسلة عالم المعرفة (198)، الكويت .
مؤنس، محمد (1978) الحضارة – دراسة في أصول وعوامل قيامها وتدهورها، عالم المعرفة، عدد كانون الثاني، الكويت .
-Anderson, John (1984) Conjuring with Ibn Khaldon: from an Anthropological point of view, Leiden .
-Boorstin, Daniel. J (1985) The Discoveries  A History Of Man’s Search to Know  his World and Himself .Vintage Books edition .
-Darnell, Regna and editor (1978) Reading in the History of Anthropology, University of Illinois .
- Leach, Edmund (1982) Social Anthropology , Fontana- Paper backs .
-Mauduit, J. A (1960) Manuel d,Athngraphie , Payot , Paris
-Oswalt, Wendell (1972) Other People , Other Customs , Holt Rinehart and Winston Inc .

0 التعليقات: